تجليات البراءة والدهشة في قصص معمر القذافي

 

فؤاد قنديل

      تجمع آراء مختلف النقاد وأعلام الفكر الأدبي على أن الفنون عامة في سعيها الدؤوب لصياغة تشكيلات فنية متجددة ومتمردة ومتفردة إنما تستهدف في الأساس محاولة استكشاف النفس الإنسانية والتعبير عنها في شتى حالاتها، وعما ينعكس على مرايا روحها في مقابل ما يشغل العلماء الذين يسعون لاستكشاف الكون من حولنا.

 

       والآداب بوصفها فنا نفطيا عريقا تهفو دائما عبر أنساق الكتابة وأجناسها لمعانقة الروح واستبطان أسرارها وفض معاليق البوح وإفساح المجال لطرح معاناتها وآلامها وأشواقها وأحلامها.

 

       وبقدر غوص الكاتب في سراديب الذات الإنسانية المسكونة بعشق الحياة، سواء في بنيتها محدودة في كيان الفرد أو وهي موزعة في وجدانيات الجماعة، تربطها علاقات جدلية متقدة بالزمان والمكان تتفتح في آفاق رؤيته الى حد كبير مساحات الضوء الكاشفة لنسيج هذه الذات، ومن ثم يتعبد الطريق نحو القبض على ملامح التشكيل الفني الذي لا محيص عنه الابداع أدبي متوهج يمتلك أدوات التأثير والامتاع.

 

       وليس ثمة غضاضة من الاعتراف بأني لم أكن متحمسا لمطالعة مجموعة "القرية.. القرية.. الأرض .. الأرض.. وانتحار رائد الفضاء" على الرغم من فرط تقديري لصاحبها العقيد معمر القذافي قائد الثورة الليبية في الفاتح من سبتمبر إذ سرعان ما حسمت الموقف بالقول أن ثائرا ومناضلا وقائدا كبيرا مثله تناط به المهام الجسام وتشغله مشروعات التنمية والقضايا الدولية والمحلية والإقليمية التي تمسك بخناقنا والعالم ، لن يمتلك الوقت والفراغ وصفاء الذهن ليبدع نصا أدبيا أيا كان حظه من الجدارة الفنية.

 

       وبينما الكتاب مسجى على المكتب ومن حوله العشرات ، المحه فأمد يدي إليه وتنتصب بداخلي رغبة في قراءة عدة صفحات حتى أنزع عن نفسي أدني درجات التجني.. وإذا بي أواصل القراءة وأنشغل عما كان يتعين علي أن انتهي منه على عجل.

        هذه المجموعة القصصية تأخذ أيدينا نحو عوالم لافتة من الأداء الأدبي الخصيب ، وتجتهد لتأسيس مشهد بانورامي مبهر لآلام وآمال إنسان عربي معاصر، لم يكتف خلاله الكاتب بالإرتحال من الماضي الى الحاضر، ومن القرية الى المدينة، ومن شرق العالم الى غربه، ومن الأرض الى السماء، ومن الجنة الى الجحيم، ومن الداخل الى الخارج، ومن الروح الى الماد.. من الحياة إلى الموت. ولكنه عاد يرتحل في الوقت نفسه نحو الاتجاه المعاكس من حاضر الى ماض، ومن المدينة الى القرية، ومن السماء الى الأرض، ومن غرب الى شرق، ومن .. الى .. ومن .. الى.

        فما الذي دفع كاتبا أن يفعل ذلك بنفسه وبنا؟ ما كان أحراه أن يعكف على ركن واحد من قريته ليحتضنه بإبداعه؟ وما كان أجدر أن يتلمس طريقه إلى روح واحدة أو عدد من شخصيات قليلة في جماعة، يرصد إيقاع حركتها ونبض حياتها.. وهي تدب في شارع أو حارة أو حتى في مدينة أو في مصنع أو حافلة أو زورق أو حتى إلى جوار بركان!.

        لكن فهم الكاتب في ظنى شرط من شروط القراءة وفهم القراءة شرط من شروط فهم الكاتب، وليس فهم الكاتب مطلوبا لشخصه بقدر ما هو مقصود لفهم النص ومن ثم فهم رؤيته للحياة وجوهره وبعض من القراء قد يدرك أنه من المتعين عليه المضي في سبيل متقابلة بحيث يبلغ روح النص التي هي على نحو أو آخر من روح الكاتب ومن ثم يهتدي لروح الحياة أو ذات الإنسان.

        يتجه الكاتب الى روح الإنسان ..

       يتجه القارىء إلى روح النص ومنها إلى روح الإنسان ..

        من هنا وبهذا النهج وحده وعبر العناصر والتشكيلات المختلفة يمكن أن يلتقي الكاتب والقارىء .. هذان الطرفان اللذان يمثلان طرفي المقص في العملية الإبداعية ، وهما السالب الموجب اللازمان لإحداث التماس .. وليس من شكل أن توالي واضطراد هذا الأداء الناضج المتكامل يفضي الى تحقيق الهدف الأسمى للأدب والفن.

        فما الذي دفع كاتبنا أن يطوف بنا هذا التطواف ويتقلب بين الأزمنة والأمكنة والشخصيات والرؤى والأفكار والأحداث ومختلف مفردات الحياة في حرية تعبيرية جديدة بالنظر والدرس والوقوف على دلالاتها ومنطلقاتها سواء الصادر منها من الوعي وما صدر من اللاوعي، وليست هذه الورقة بقادرة ولا معنية بأن تفصل ذلك.

        لكنها رحلة الكاتب المعاصر المؤرق بهم الحاضر لاستكشاف النفس الإنسانية والتعبير عنها، وهو  - كما سبقت الإشارة – الهدف الأول للفنون عامة .

        يبدو الراوي في كل سطور المجموعة، مهموما بالانسان، وهو في زعمنا وبرغم ما يفيض به النص من خصوصية مكانية وإرشادات لا حصر لها تمثل ملامح رئيسية من ملامح المجتمع العربي ، من اسماء الشوارع للشخصيات والأغاني والعادات والمشكلات والعالم والأسواق والمعتقدات والآثار، إلا أنني اؤكد على أن الانسان في هذه المجموعة لم يكتف بكونه الانسان.

        الجغرافي المحدد، ولكنه إنسان بالمعني العام، فمن خلال الخاص يخرج الكاتب الى العام، ومن خلال الجزئي يرحل الى الكلي وعبر المحدود الى اللامحدود.. أنه حريص وبقصدية لا تنكر على أن يمنح من روح إنسان وضع أقدامه، أو وضعت أقدامه على عتبة الضياع والانكسار والهزيمة والذوبان، وها هو يواصل مسلسل انحداره بكفاءة  لا نظير لها.

        إن الراوي يشعر أنه متورط مع الانسان المسحوق والمتأزم فيتحمس من كل قلبه للتعبير عن دهشته البالغة لما آل إليه مصير الانسان الذي عبثت بأقداره قوى ملتاثة وهو وإن كان يعني بالتحديد ويشير بأصبع الأسى نحو الانسان العربي، إلا أن الرؤية الشاملة وبنض اللغة والتشكيلات الفنية الملهمة تسمح في يسر أن ندرك اتساع منظور الرؤية ليكشف النص عن الشجن الذي يترقرق في تضاعيف التراكيب اللغوية وذلك الاشفاق الذي يغلف صوت الراوي وهو يحكي لنا مايراها، وذلك الألم الذي يحز في نفسه ما يطالعه حتى ليلقي بثقله على القلم الذي يحرر النص فتبلغنا منه حشرجة وتململ يشف من المجاهدة والمكابدة.

        منذ الكلمة الأولى تطالعنا معالم رؤية الكاتب "المدينة" .. لم تكن هذه الكلمة مجرد وصف لمكان أو عدة أمكنة ، ولكنها من البداية حتى النهاية امتلكت هالات من الاشارة ومستويات عالية من الدلالات ، وقد حاول الكاتب أن يعتصر مضامينها وأن يستقطر كل ما تمارسه في العالم من وحشية. 

       كانت "المدينة" بوصفها الكلمة / المفتاح على الأقل من وجهة نظري هي الكاشفة عن علاقة الراوي بالعالم ، وهي التي مدت إصبعها لتلفت الإنتباه الى ما سوف تطالعه عبر المشهد القصصى الفسيح من تجليات تنهض جميعها على البراء الشيديدة لروح الراوي وتفجر بالتالي دهشته إزاء كل ما يجري.

       يبدأ النص بعبارة "المدينة" .. من قديم الزمان .. فما بالك الآن ؟. وهي في زعمي عبارة تتضمن إشكالية لغوية .. فالمدينة إسم وصفة الكلمة الواحدة جملة كاملة .. وهناك المستور والغائب والمحذوف قصدا.. فليس ثم شك في أن العبارة كاملة كانت: المدينة من قديم الزمان كانت وحشاء أو تمثل تهديدا للحياة، فما بالك الآن ؟!.

        وقد حذف سلفا ما يتوقع أن يكون مفهوما ضمنا.. وهو أداء لغوي بالغ الدلالة، ولكنه للأسف لم يتكرر كثيرا، وإن ظل ذا طعم خاص وامتلك في الآن نفسه اندفاع وثقة الرصاصية التي تطلق من بندقية تقبض عليها يد قوية .. أما السؤال فما بالك الآن. فليس استفهاميا، ولكنه تعجبي، دهشوي إذا جاز التعبير، وتسرح روح الراوي الرافضة للصورة المدينية وجوهرها المجتاح لكل جمال والذي يحترم كل قيمة بالإعلان عن ذلك في عبارة موجزة قائلا: هي كابوس الحياة. 

       كابوس الحياة برمتها، لأن المدنية تصدر متاعبها وعقدها وهيمنتها وأنيابها الى القرى .. الى الطبيعة، بل الى البحر والصحراء النائية.

        يقول الكاتب في الصفحة( 17 ):

       " تتمدد المدينة لتلتهم الأرض الزراعية، وتلتهم القرى المجاورةن لتطويها تحت جناحها القدر الكاتم للنفس، فتعشق أسنانها التي هي على هيئة طرق ومبان ومرافق وأظفار تعشقها  في تلك القرى الصغيرة المعزولة الآمنة الهادئة، وإذا بها مناحية ثم طرف، ثم جزء لا يتجزأ منها فيتم طحنها بكلكل المدينة الثقيل، وتتحول من قرى وادعة، منتجة، طيبة، مترابطة.. مزهرة الى خلية، مظلمة،قائمة ومريضة.. "

        عندما قراءتي لهذا الجزء من القصة، قفزت الى ذاكرتي فجأة قصة سمعتها وأنا صبي صغير تحكي عن طفلة أرسلتها أمها لتزور عمتها التي تسكن بعيدا قرب الغابة، وعلم الذئب بوجهتها فسبقها وأكل العمة وأسرع بارتداء ملابسها والنوم في سريرها.. وصلت الطفلة وراعها حال عمتها فسألتها: ما بال أذنيك يا عمتى قد كبرتا؟ فيقول الذئب: لكي أسمعك بهما، وتسأل الطفلة: ولماذا كبرت أسنانك؟ فيكشف الذئب عن وجهه وهو يقول: لكي التهمك بهما ياحبيبتي.. تعالي.

        تفاجأ الطفلة، وراوي هذه القصة معا ويدهشان من منظر الذئب المدينة أو المدينة الذئب. 

      ويتابع الراوي الكاتب تعميق مشارعنا إزاء العالم المعاصر، وهيمنة المدينة التي هي رمز لكل من امتلك القوة أو السلطة في مقابل البراءة والنقاء والبساطة، فيقول في الصفحة: ( 22 و23 ) في فقرات تفيض شفقة على أطفال المدينة:" إن صغيرا دهس يوم أمس في ذاك الشارع لأنه حاول اللعب فيه والسنة الماضية مرت العجلات بسرعة على طفلة، وهي تعبر الشاعر فتمزق جسدها الصغير ولملموها في رداء أمها قطعة.. قطعة.. وأخرى خطفها محترفون وغيبوها أياما ثم وضعوها أمام منزل أهلها بعد أن سرقوا إحدى كليتيها، وطفل وضعه الناس في صندوق فداسته السيارة دون أن يعلم سائقها أن فيها طفلا مسكينا ".

        يعترف الراوي في الصفحة (  68 ) ، بأنه جنى على نفسه بدخوله المدينة طواعية ويعترف بصعوبة المواجهة.. ويشكك في إمكانية الخلاص دون أن تكون هناك أي إشارة لانهزامية أو خور في طبيعته، ولكن المدينة كائن مرعب ويجب على الجميع مقاومته. سواء من كان فيها أو من لم تحمله قدماه إليها. إنها العدو الأول الذي يهدد البشرية.

        ينتقل بنا الكاتب في قصة أخرى هي "الموت" ليواصل استنفار مشاعره إزاء مفردات العالم وما يجري فيه، فيقدم لنا في إحدى تجليات البراءة رؤيته المفزعة عن الموت، يقول في الصفحة ( 94 ) : "كم من ضحية افترسهاوهي في غفلة، منه هانئة مطمئنة !! وكم من ضحية افترسها وهي نائمة حالمة ، وكم من ضحية افترسها وهي ضاحكة مستبشرة لا تفكر فيه، إنه لم يرحكمم مهما تخاذلتم. لقد قتل أخوتي في عمر الزهور، لقد جوع أسرتي حتى أجبرها على السفر إليه ثم دخل في معارك طاحنة مع أبي الشجاع ".

        وبعد إن استعرض قسوة الموت وبطشه وغدره يتوجه بالدعوة الى ألا نستسلم للموت، بل علينا مقاومته، واعتباره عدونا الأول ، ولا صلح ابدا معه، وعلينا أن نستعد له ونتأهب لصده وتحجيمه.

        وهكذا تتجلى براءة الراوي وصفاء روحه، فزعم أنه يسخط على الموت ويرفض مداهمته العبادة ويصمه بالخيانة، فانه ينسق مع براءته وطبيعته الصافية الفطرية التي تمنح من نبع الهي نبيل ليقول: " إذا أمسكتم بالموت فلا ترحموه ولا تتقبلوا منه أي صلح" إنها نفس تخلصت من كل خبرة يمكن أن تمحو قيمة إنسانية، ورفضت أن تقضي آلات العصر على بساطة الصحراء. نفس أبية تنتصر للطبيعة التي لا تهاون ولا تستسلم ومازالت تحتفظ ببطارتها وعذريتها وطزاجة الندى وعذوبة الفجر.. انها نفس تصر على ان تشرب المطر.. وتتوسد الأرض وتحمد الله بدلا من ان تركب حصانا مجنونا يسمى الحضارة والتكنولوجيا .. وتأبى ان تستسلم للمغريات، إنها نفس لاتزال تحمل كبراء البراءة وعزة الطهر ونبالة الجبل والصحراء.

      في الصفحة ( 107 ) يدهش لقدرة الموت على مغالبة إبيه، ولا يدهش لقدرة أبيه على مواجهة الموت، فهو يرى أباه أقوى من الموت فله برغم البدن المهلة روح كريمة وقلب جسور، وقد كانت هذه الصفحات بالذات من اكثر تجليات البراة أصالة وعمقا..

        يواصل الراوي البرىء تجلياته حتى ليكتب الشعر في وصف يوسف أبن يعقوب الذي قاوم زليخة زوجة عزيز مصرن وكم في الحياة من مثل أخلاق يوسف وكم في الدنيا من يفوق يوسف وفاء وتعففا وإباء، ويبالغ الراوي في سخطه على يوسف وأكثر بطشا وغدرا.. وليس ذلك إلا أن الراوي مؤرق بهموم البشر وتبلغ به درجة انزعاجه مما حدث وما قد حدث عبر كل الأزمان حدا تكتمل به دائرة الصدمة التي بدأت مع أول كلمة "المدينة".

        يكيل الشتائم لأبناء يعقوب ويعلن عائلته جميعها، مع أن ما فعلوه بيوسف أرحم مما فعله الأمريكان بفلسطين ومصر وليبيا والسودان وأفغانستان والعراق وغيرها من الدول، ولكنه من فرط البراءة يريد أن يمد الخيط على استقامته من الحاضر الى الماضي، بداية مما يجري على ارض فلسطين في القرن العشرين وما تلاه من سنين، رجوعا الى اصل السلالة المشئومة.. وكأنه يريد أن يوجه أنظارنا دون ثرثرة أو مزايدة للنظر الى بذرة الضلال والبهتان والغدر في هذه العائلة.. ومهما كانت صغيرة في البداية فيمكن أن نتصور حالهم بعد أكثر من ثلاثة آلاف عام.

        وتتوالى عبر المجموعة القصصية:

 

القرية.. القرية.. والأرض .. الأرض..

 وانتحار رائد الفضاء

 

 مشاهد متعددة لما يجري في العالم، لكن الراوي حريص على التوقف دائما أو الانطلاق من الأرض العربية، وفي عدة قصص تتناول أحوال المسلمين في المنطقة ومن الخليج الى المحيط يواصل الراوي دهشته من السلوكيات التي لاتزال تكبح جماح حركة الأمة نحو التقدم والمنافسة والأخذ باسباب العلم.

        فهو يرى الانسان مادام قد قدر له أن يعيش فعليه ان يأخذ بكل اسباب العيش، ومادامت قوة العالم المعاصر تتمثل في العلم بشتى صورة، فليس من مفر وتحوز العلم وتؤسس المنشآت العظيمة حتى لا تدهسنا عجلات الآخرين وما كان لنا أن نشعر بتناقش بين الفتي صاحب البراءة وهذا الراوي الذي يدعو الى الانطلاق والمنافسة على درب العلم والمعرفة، فهي دعوى دينية وإنسانية للأخذ بأسباب القوة أبا كان مجالها وشكلها ومن هنا ياسى على تبديد الطاقة العربية في التوقف عند التفضيلات سقيمة في آليات العبادة ، وفي النزاعات التي يثيرها الذي يدعون العلم بالدين فيكفرون الآخرين ويترصدونهم في كل مكان، وهو يرفض التواكل والقعود والاكتفاء بالدعاء والتعاويذ.

        وفي نهاية المجموعة يقدم لنا الراوي في قصة ( المسحراتي ظهرا ) شخصية هذا الرجل الذي يوقظ الناس لأداء واجب الاستعداد للصوص ولست في حاجة الى أن أكشف العلاقة الوثيقة والمنطقية بين اختيار شخصية المسحراتي وطبيعة الراوي، فلم يكن الراوي عبر المجموعة جميعها إلا هذا المسحراتي الذي يبرح فراشه في غير حاجته للنوم والراحة ويمضي عبر أمواج الليل والظلام لكلي يدق طبلته وينادي الناس قائلا: إصحى يا نايم .. ملحا في الدعوة كي يستيقظ الجميع حتى لا يفوتهم فطار الصومن وحتى لا يفاجأ أحد منهم بطلوع الفجر وركوب الشمس عجلتها لتلدغ النائمين بسوطها.

                والمسحراتي لا يكتفي بالدعوة واليقظة، ولكنه من أجل مزيد من التأكيد يذكر بعض العائلات بالاسم، ويذكر بعض أبنائها كذلك، فيقول: "   إصحى يا فريد ويا عبدالرحمن، إصحى يا يوسف ويا ابراهيم   " يقول الراوي: "المسحراتي له قدرات لا تتوافر في غالبية الناس ومسئوليته ادبية تتعلق بالضمير والسرير والالزام الذاتيين، وهو حريص على إيقاظ كل نائم ويتجشم المتاعب ويقطع المسافات مشيا على قدميه ، ويتخلل كل الأزقة والخلوات ليوقظ أصحابها، وكم من عثرة تصادفه، وكم من كبوة كباها نتيجة ذلك، ولم يتقلب على عقبيه، ولم يتعكر مزاجه ، بل يمشي وسبيله مسبحا باسمه تعالى ، مواصلا مسيره حتى ليسمع صوته الجميع ..

        ويقول في الصفحة 177:

       و" المسحراتي ليس كالمؤذن.. لأن المؤذن لا يمشي، وإنما يقف فوق المئذنة أو السطح، يعلن الآذان من أي مكان، حتى وهو ممدد على الفراش بواسطة مكبر الصوت، ثم إن المؤذن يردد عبارات محفوظة ومحددة لا إبداع.. ولا جديد فيها، بينما المسحراتي يتحرك ويبدع يدق الطبل ويدعو.. يسبح ويسبح.. له أن يقول كل ما من شانه إيقاظ النيام وله ان يكرر النداء والدعاء، ولكن باسلوب طبيب يحبه حتى الأطفال " 

       المسحراتي إذن نموذج مثالي واختيار موفق غاية التوفيق لتصوير الهدف من رؤية الكاتب التي حملها لهذه الشخصية المتفردة .. المسحراتي يعاني في نبالة ومن أجل مهمة مقدسة وإنسانية، دون أن ينتظر في العادة أجراء وإذا كان فالفتات. وهو يجد أقصى سعادته ومتعته في أن يرى النور قد ظهر في بعض النوافذ ، وأطلت بعض الوجوه ودبت الحركة  ولو قليلا في الجسد الميت.. ويثلح صدر المسحراتي أن يستشعر الاستجابة من النائمينن وإن صوته لم يصل إليهم فقط، بل وتحركوا لدعوته.. عندئذ يؤوب الرجل الطيب النبيل الى بيته فيوسد طبلته الى جداره ويتناول لقيمات وقد يكون الوقت قد فات فيحط جسده ويستسلم للنوم سعيدا بما فعل.. وقبل أن يغيب في طيات السبات يكون قد لام نفسه، لأنه لم يذكر فلانا أو فلانة او لم يمكث طويلا في الشارع الفلاني أو لم تبلغ قدماه المنطقة النائيةن ولعل طبلته لم تصل دقاتها الى هذا الموضع العالي أو ذلك وفي الغذ إن شاء الله سيفعل ويفعل ويفعل...

        وهكذا تجىء شخصية المسحراتي في آخر صفحات المجموعة وكأنها لحظة التنوير ونافذة الكشف.. والكلمة الأخيرة، إن كانت هناك كلمة أخيرة، وإذا كانت صدمة الراوي في مطلع المجموعة مع المدينة وشراستها وتواصل الصدمات والأزمات والدهشة لما يحدث في الدنيا عبر كل صفحات المجموعة وقصصها فقد انتهى الراوي الى أن المسألة لن تكتفي بالدهشة، ولا يتعين الرضا بالعرض والطرح والتعبير عن السخط وإعلان رفضنا لما تمور به الحياة من عسف وغدر ومتناقضات وتلاطم غير حميد أو دروشة ونوم وصراع مريض وضياع، ولكن الحل هو العمل والعمل يبدا أولا بالمعرفة ولا بد للمعرفة من يقظة، ولابد لليقظة من مسحراتي بدق طبلته يقوة منبها ومحذرا ومبشرا وداعيا الى الله والى الحياة والى التعمير في الأرض بضمائر المخلصين والشرفاء والبسطاء والنبلاء ومن هنا أتصور أن المجموعة تعتبر ثورة من خلال الآدب وليست ثورة أدبية وانما محاولة لتثوير النص الأدبي .

       جاءت المجموعة إذن لمثل صرخة في وجه البعض بكل أشكاله والخور بكافة صوره وقتل الطبيعة بشتى معالمها.. وتضمنت القصص دعوات متواصلة لنصرة الانسان في كل مكان، الانسان في صورته الربانية، لا في صورته المادية الغشيمة التعسة..

        حاول الراوي من خلال النص الأدبي أن يعبر عن الانسان الذي اغتالته المدنية في جانب من الدنيا وعن الانسان الضائع الضال الذي يقبع في ظلامات عالمه في جانب اخر من الدنيا.. وهذا هو كما سبقت الاشارة الهدف الأسمى للفنون.. والاجتهاد في التشكيل الفني بأقصى قدر من الابداع لاستيقاظ الانسان من وهدة الضياع والتلاشي ورفع راية وجوده المتألق على الأرض التي جعله الله سيدا لها وخليفة عليها.

        ومن ناحية التشكيل الفني فقد تعددت الوسائل الأدبية التي حفلت بها المجموعة لتسهم في تبليغ الرسالة وحمل الرؤية الفكرية الى وجدانات المتلقين وأهم ما تميزت به المجموعة.

        استخدام اسلوب الراوي المتكلم.. فالبطل في كل القصص هو حاكيها وتحققت بذلك النهج حميمية عالية ودفئا وخصوصية، والأهم أنها وفرت اتساقا مع الذات المتألمة التي يتعين أن تبدي رايها في كثير من صور ومناحي الحياة.

 

       التوجه بالحديث بين الحين والحين الى شخص المخاطب أو أشخاص المخاطبين ومن شأن هذا الاسلوب دعوة القارئين للمشاركة في الرؤية والرصد واستنفار الراي والاستمالة وبيان ان القضية كما تؤرق الراوي تؤرق هؤلاء المخاطبين أو عليها أن تفعل.

        استخدام أدوات الاستفهام والتعجب كثيرا ، وهو ما تمليه طبيعة البراءة والدهشة والمفاجأة واستقطاب كافة مشاعر الرفض والاستياء.

        كسر حاجز الزمان والمكان. فالراوي يمتلك حرية كبيرة للتنقل بين الماضي والحاضر، وبين الواقع والجغرافية المتعددة.

 

       تتضمن القصص قدرا لا بأس به من المعلوماتية وهي سمة من سمات القصة القصيرة الحديثة التي تجاوزت كونها مجرد عرض بياني ونص إنشائي الى أن تكون بللورة تصدر عنها تنويعة من الاضافات الفكرية والمعرفية والإنسانية.

        توفر عنصر الخيال وحضوره بقوة في العديد من الفقرات سواء السردية او اللغوية، وقد أدى هذا الى الاعلاء من أدبية النص وسهولة المزج بين الخيال والواقع.

        وفي الختام لن أقول الا أنني سعدت بقراءة هذه المجموعة وأتوجه بالدعوة الى صاحبها كي يعكف بقدر ما يتاح له من الوقت والصفاء ليمنحنا قصصا جديدة ومتعا جديدة، وأحب أننا لا نزال، بل ما أحوجدنا الى مثل هذه القصص التي يمكن أن تكون هي المسحراتي الذي يوقظنا من سبات عميق مازلنا نغط فيه.


 

 

 

جائزة القذافي الدولية لحقوق الإنسان - جميع الحقوق محفوظة   © 2005

جائزة القذافي الدولية لحقوق الإنسان